العِبادة: وليمة اللذّة المسيحيّة
5 كَمَا مِنْ شَحْمٍ وَدَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي، وَبِشَفَتَيْ الابْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي. 6 إِذَا ذَكَرْتُكَ عَلَى فِرَاشِي، فِي السُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ،
إنّ روح العبادة في كثيرٍ مِن الكنائس قد انطفأت بسبب روح التّصدّي لفِكر التّلذذ المسيحي. فحينما يكون لديك الفِكر الذي ينادي بتحريم المُتعة لنفسك حتّى لو كانت روحيّة مِن مُنطَلَقِ الأخلاق النّبيلة والسّامية، تصبح العبادة -وهي أسمى الأفعال الأخلاقيّة التي يمكن أن يفعلها الإنسان- مُجرَّد واجب. وحالمَا صارت العبادة واجباً فقد تتضاءَل أو تختفي من الوجود. وقد نعتبرها فضيلةً في كنائسنا حين نتبنّى الفِكر الغريب الرّافض تماماً للَّذة حتّى لو كانت روحيّة، وهذه الفضيلة المُشَوّهة تُعَدُّ مِن ألدِّ أعداء العبادة المسيحيّة، وبالتّالي هذا الفِكر يخنُقُ أشواقَ القلب ويُطفِئُ روحَ العبادة المُتلذِّذة بالرّب. وإنْ لم يكُن سجودنا هو وجبتُنا الشّهيّة في وليمة مجد الله، فماذا يكون إذن؟.
العِبادة هي شعورٌ داخليٌّ وتصرُّفٌ خارجيٌّ يُعَبِّرُ عن مدى تقديرنا واعتزازنا بالله، وهذا هو ما كان يَعنيه الرّبُّ تماماً بقوله:
"هذا الشّعبُ يُكرِمُني بشَفَتَيهِ وأمّا قلبُهُ فَمُبتَعِدٌ عنّي بعيداً، وباطِلاً يَعبُدونني" (مرقس 7: 6،7).
ثلاثة طُرُقٍ يستجيب بها القلب للعبادة:
العبادة إنْ لم تَلمِس القلب تكون باطِلة وجَوفاء ولا معنى لها. وأعتقد أنّه مِن المُمكن وصف اختبار القلب أثناء العبادة، بشكلٍ عام. ثلاثة طرق يُمكِن بها للقلب أن يستجيب لعبادة الله، وهُمْ عادةً يتداخلوا معاً.
1) القلبُ يبتهجُ في غِنى مجدِ الله:
"كَمَا مِنْ شَحْمٍ ودَسَمٍ تَشْبَعُ نَفْسِي وبِشَفَتَيْ الاِبْتِهَاجِ يُسَبِّحُكَ فَمِي.إذا ذَكَرْتُكَ عَلى فِرَاشِي فِي السُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ" (مزمور 63: 5، 6).
2) القلبُ يشتاق لهذه البَهجة أنْ تكونَ أعمَقُ وأثبَتُ وأكثرُ انتظاماً:
"كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إلى جَداوِلِ المِياهِ هَكَذا تَشْتاقُ نَفْسِي إلَيكَ يا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إلى اللهِ إلى الإلهِ الحَيِّ، مَتَى أَجِيءُ وأَتَراءَى قُدَّامَ اللهِ ( مزمور 42 : 1، 2).
3) القلبُ يَتوبُ بأَسَفٍ حينما لا يشعر ببهجةِ الله، ولا باشتياقٍ له:
"لأنّهُ تَمَرْمَرَ قَلبِي وانْتَخَسْتُ في كُلْيَتَيَّ. وأنا بَلِيدٌ و لا أَعْرِفُ، صِرْتُ كَبَهِيمِ عِنْدَكْ" (مزمور 73: 21، 22).
العائِقُ الأكبرُ للعبادة:
ومِن ثُمّ، إذا لم تشعر ببهجةِ مجدِ الله ولا باشتياقٍ لأنْ تراهُ وتعرفَهُ، ولَم تشعر بأيِّ أَسَفٍ لأنّ اشتياقك وبهجتك ضئيلان جدّاً، فأنت لم تتعبَّد بَعْد. ألَيسَ هذا واضحاً، إنّ الإنسانَ الذي يعتقدُ أنّ الفضيلة تتغلَّب على طَلَبِ ما يُمتِّع الذّات، ِبما يَشمَلُ ذلك الأُمور الرّوحيّة، ويعتقدُ أنّه مِن الرّذائِل أنْ نسعى لإسعادِ ذواتِنا في العبادة، سيكون من النّادر جدّاً أنْ الإنسان يستطيع أنْ يتعبّدَ عبادةً حقيقيّةً، لأنّ العبادة هي واحدة مِن أكثر أنشطة الحياة التي يُمكن أنْ يَجِدَ فيها المُتعة الشّخصيّة الذّاتيّة، ولا يجب أنْ تُدَمَّرَ بسبب عدم المُبالاة بها. هكذا نَجِدُ أنّ أكبرَ عائِقٍ للعبادة الفعليّة هو لَيس أنّنا طالِبو المُتَع وحَسْب، ولكنْ أنّنا على استعدادٍ أن نهدَأَ ونسكُتَ ولا نُبالي بأَمْرِ هذه المُتَع. إنّ إِرْمِيا النّبي أدركَ هذا وصاغَهُ كالآتي:
"هَلْ بَذَلَتْ أُمَّةٌ آلِهَةً وهِيَ لَيْسَتْ آلِهَةً، أمّا شَعْبِي فَقَدْ بَدَلَ مَجْدَهُ بِما لا يَنْفَعُ. اِبْهَتِي أيَّتُها السَّمَواتُ مِنْ هَذا و اقْشَعِرّي وَتَحَيَّرِي جِدّاً يَقولُ الرّبُّ. لأنّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ، تَرَكوني أنا يُنْبُوعَ المِياهِ الْحَيَّةِ لِيَنْقُروا لأَنْفُسِهِمْ آباراً آباراً مُشَقَّقَةً لا تَضْبُطُ مَاءً" (إِرْمِيا 2: 11-13).
إنّ الحاجِزَ الأعظمَ للعبادة الحقيقيّة لَيس أنّه دائماً نسعى نحو شِبَعِنا نحن، بَلْ إنّ هذا السّعيَ ضعيفٌ جدّاً وغيرُ صادرٍ مِن القلب، حتّى أنّنا نرضى بأقلِّ القليل مِن قَطَراتٍ تتساقطُ من خَزّانٍ مثقوبٍ، بينما يُنبوع الحياة بغَزارته ينتظرنا.
واحدٌ مِن أكبرِ رُوّادِ مَنطِق اللذّة المسيحيّة هو "سي إس لويس"، ما زلتُ أتذكّرُ الاكتشافَ العظيمَ الذي اكتشفتُه في عام 1968 عندما قرأتُ أوّل صفحة في عِظَتِه "ثِقَل المجد"، وهي لا تختلف في شيء عن ما قاله إرميا إلاَّ في اللغة المستخدمة التي تلائم عصره.
لَوْ سألتَ عِشرين شخصاً في هذا الزّمان عن أسمى الفضائِل حَسْبَما يعتقدون، سيُجيب تسعة عشر مِنْهم، إنّها عَدَم الأنانيّة. بينما إذا سألتَ أيّاً مِن المؤمنين العُظَماء في العَصْرِ السّالِف، فسيُجيبك، إنّها المحبّة. هل لاحظتَ ما حدث؟. الإجابة بمُصطَلَحٍ سلبيّ استُخِدمَ بَدلاً من الإجابة بمُصطَلَحٍ إيجابيّ. المُصطَلَح السّلبيّ في كامِلِ مَعناهُ يَشمَلُ اقتراحاً بتوفير الأشياء الطيِّبة للآخرين وليس للذات، وإنْ كان بصفةٍ غيرِ أساسيّة، نستنتج أنّ إنكار الذات هي النُّقطة الأهم منّ طَلَبَ سعادتهم. إنّي لا أعتقد أنّ هذه هي فَضيلةُ المحبّة في مَفهومَها المسيحيّ. إنّ العهدَ الْجديدَ فيه الكثير ليقوله عن إنكار الذّات، ولكنّه لا يَذكُرُ ما يَذكُره عن إنكار الذّات ليَنتهي عند هذا الحَدّ فقط بَل يُتبِعُه بوعود جزيلة بالبَرَكة وبمُكافأة عَظيمة. لقد أُخبِرنا عن إنكار الذّات وحَمْلِ الصّليب حتّى نتبَعَ المسيح. إذا فَعَلْنا ذلك، فسَنَجِدُ وصفاً لمِا هو في انتظارنا في كُلِّ خُطوة في هذا الاتجاه، وتتضمَّن مُناشَدةً وحَثّاً لهذه الرّغبة. لَو ما زالَ بعُقولِنا العَصريّة هذا الفكرُ الذي يقول: إنّ مُجَرَّد الرّغبة في خَيرِنا والسّعي المُخلِص للاستِمتاع، حتّى روحيّاً، هو شَيءٌ سيّء. فإنّي أقول: رُبّما تسلَّلَ هذا الفِكر مِن جماعة الرّواقيّين، ولكنّه لَيس جُزءاً على الإطلاق مِن الإيمان المسيحيّ. بالفِعل، لو تأمَّلْنا وفكَّرْنا في الوعود على المُجازاة والمُكافآت، وطبيعتِها المُذهِلة، كما وَرَدَتْ في الكتاب المقدّس، سيبدو أنّ الرّبَّ سَيَجِدُ رغبَتَنا في الحصول على هذه المُجازاة ضعيفةً جدّاً، عِوَضاً عن أنْ تكون قويّةً جدّاً. معظم النّاس فاتِرون ومَخدوعون فقط بمُتعَةِ الشّرابِ، والْجِنس، والطُّموح. وحينما تَعرِضُ عليهم المُتعة الحقيقيّة والفَرحَة غير الزّائلِة، يصبح حالُهُمْ مثلَ حالِ طِفلٍ ساذَجٍ يلهو في الطّين ويصنعُ منه أشياءَ تُمتِّعُه، لأنّه لم يتمكّن أنْ يتخيّل قَضاء إجازةٍ مُمتِعَةٍ على شاطِئ البحر. نحن نرضى بمُتَعٍ هي أبعدُ ما تكون عن المُتَعِ الفِعليّة، ونفعل ذلك بسُهولةٍ أيضاً.
ألَيس كذلك؟، إنّ رغبتَنا في السّعادة ضعيفة. لَقَد رَضِينا واكتَفَيْنا بمُتَعِ المنزل والعائلة والأصدقاء، الوظيفة والتِّلفاز وفرن الميكرويف وباقي الأجهزة الحديثة، نُزهة ليليّة خارج المنزل والإجازة السّنَويّة. لقد جَعَلْنا أنْفُسَنا تَعتادُ على هذه المُتَع الصّغيرة وغير المُشَوِّقة وقصيرة الأَجَلْ وغير اللائِقة، ولِذا قُدرتنا على الاستمتاع الحقيقيّ وَهَنَتْ، وبالتّالي عبادتنا أيضاً ذَبُلَتْ.
عبادة المسيحيّين الحقيقيّين المُتَلَذِّذين بالرَّبّ:
إنَّ لديَّ حُلْمٌ لكنيستي ولخدمة العبادة فيها وما يمكن أن تُصبِحَ عليه، لَو كان كُلُّ شخصٍ مسيحيّاً حقيقيّاً مُختَبِراً. إنّي أَحْلُمُ بساعةٍ في الأسبوع تختلف تماماً عن أيّةِ ساعةٍ أُخرى، موعِداً أُسبوعياً خاصّاً مع الإلهِ الحيِّ، وحُجرة مليئة بأُناسِ مِن كُلِّ قلوبهم يقولون:
"يَا اللهُ إلَهِي أَنْتَ. إلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إلَيْكَ جَسَدِي في أَرْضٍ نَاشِفَةٍ ويَابِسَةٍ بِلا مَاءٍ" (مز 63: 1).
إنّي أَحلُمُ بتجَمُّعِ أُناسٍ يُحبِّون حديث الشَّركة المسيحيّة، ولكنْ مَن الذي مِن أجْلِ عُمْقِ هذا الحديث يُخصِّصُ ساعةً واحدةً في مُستَهَلِّ العبادة ليَنحَني ويُصلِّي بإخلاصٍ وبغَيرِ خَجَلٍ، ويطلُبُ نُزولَ روح الله القدّوس ليَهْتَزَّ المكان بقُوَّته. أَحلُمُ بأُسرَةٍ مُجتَمِعَةٍ مِن المؤمنين في صَباح يوم الأحد لأَجِدَهُمْ في سعادةٍ حقيقيّةٍ تُماثِلُ فَرحَتَهُم بأوَّلِ أيّام عُطلَتِهِمْ، أو فَرحَتِهِمْ بأَكْلِ الدِّيك الرّومي في عيدِ الشُّكْرِ، أو فَرحَتِهِمْ بقُربِهِمْ مِن شجرةِ عيدِ الميلاد والهدايا في انتظارِهِم تَحتَها. القُلوب الفَرِحَة غير المُقَيَّدة تنطلقُ وتقولُ: "آمين!"، عندما يقودُنا فريقُ التّسبيح للهُتاف لله، أو حينما تَشدو الآلاتُ الموسيقيّةُ لتُتَوِّجَ مَلِكَ المُلوك، أو عندما يُعلِنُ الواعِظ عن حقائقَ سامِيَة مُعَزِّيَة لا مَثيلَ لَها مِن الوَحيِ المُقدَّس. أَحلُمُ بساعةٍ فِيها تَذوبُ كُلُّ الضَّغائِن، وتلتَئِمُ كُلُّ الْجُروح القديمة وتتعافى تماماً في دِفءِ الفَرَحِ بالرَّبّ، ساعةٍ فِيها يَنالُ القدِّيسون المُنْهَكونَ قُوَّةً وشِدَّةً مِن الرّبِّ، ليعودوا ثانيةً يوم الإثنين إلى أعمالهم أقوياء ومُتَحمِّسين. أَحلُمُ بساعةٍ فِيها عِبَادٌ مُجتَمِعين مُتَعَطِّشين لِسَماعِ كلمة الرّبّ ولفِعْلِ ضَوضاءٍ مُفْعَمَةٍ بالفَرَحِ بالرّبّ وبِخَلاصه لَنا، مُهَلِّلين ومُستَخدِمين الآلات الموسيقيّة المُختَلِفَة مِن آرغن وبيانو وبوق وفلوت وصُنوج، وآلاتٍ وَتَرِيّة وهُتاف. أَحلُمُ بساعةٍ واحدةٍ في الأُسبوع مَعَكُم فيها نتقابَلُ مع الله معاً بشكلٍ حقيقيٍّ غير مُصْطَنَعٍ، حتّى أنّه إذا دَخَلَ زائِرٌ يتعَجَّبُ ويقول: "حقّاً، إنّ الله في هذا المكان!".
إنّه لَيس مُجَرَّد حُلُمٍ، بَل هذه هي مشيئة الله لَنا، وهذا يحدث بالفِعل أحياناً. زارَني خادمٌ الأُسبوع الماضي، وكان قد حَضَرَ مَعَنا سابقاً خِدمَة الصَّباح تقريباً مَرَّتَين. قال لي لاحقاً إنّه أراد أنْ يُشجِّعَني أنْ نستمِرَّ هكذا. وحينما كان يقول لِي ذلك، انسَكَبَتْ دموعٌ مِن عينَيه، وقال بالضَّبط: "لقد عُدْتُ إلى منزلي وبَكَيْتُ لأنّنا لَم نتعَبَّد في كنيستنا مِثلَما تتعبَّدون أنتم في كنيستكم". اندهَشْتُ كثيراً لأنّي أعلَمُ أنّه مازالَ الكثيرُ لنَفعَلَه. كَما أنّي أعلمُ أنّه تَعلَّم ونمىَ في الإيمان في كنيسة صغيرة تجتمع في منزل. لِذا قُلتُ لَه: "رُبَّما بَدَتْ لكَ خدمة العبادة رسميّة بعض الشّيء بِما أنّ مُعظم أجزاءَها خُطِّط لَه مِن قَبْل!". إلاّ أنّه أجابَني بقوله: "كلاّ، لا، الأمرُ لا يتعلّق بهَيكلها، إنّه يختصّ بوجود حياة في الخدمة أَمْ لا، وهل القِيادة والشّعب بالفِعل يتقابلون مع الله أم لا". وهو بِحَقّ على صَواب في هذا. توجد كنائس كارزماتيّة ولكنّها مَيتة، وأُخرى طقسيّة ولكنّها حَيّة. إنّ الشّكل هو مُجَرَّد خَطّ سَيْر يقودنا لنكون في الاتِّجاه ذاته، أمّا ماكينة مُحرِّك العبادة فَهِي التي تصنع الاختلاف. فهَل هي بارِدة أو ساخِنة؟. هذا يعتَمِد على كَونِنا مسيحيّين حقيقيّين مُختَبِرين، أَمْ لا.
أربعةُ مُعَوِّقات لحياة التّلذُّذ المسيحيّ:
ما الذي يُمكِن أنْ نفعلَه إذن لنُحقِّق هذا الحُلُم في كنيستنا؟. نفعل شيئَين: أحدُهُما عقلانيّ، والآخَر وِجدانيّ. إلاّ أنّه يجب أنْ نقتنع عقلانيّاً أنّ الاعتراضات والمُعَوِّقات غير صحيحة، ويجب أنْ نُوقِظ مشاعر جديدة وقويّة في قلوبنا لله. دعوني أَعرِضُ أربعَة مُعَوِّقات لحياة التّلذُّذ الشّخصيّ مِن المَنظور المسيحيّ، والمُتعلِّقة بأَمْرِ العبادة.
1) أوّلاً، تلذُّذ الذّات بالمسيح لا يَعني أنّ الله يُصبِح أداةً لمُساعدتِنا في الحصول على المُتَع العالميّة، حاشا. المُتعَة التي يقصدُها ويطلُبها المسيحي الحقيقي هي المُتعَة الموجودة في الله ذاته. في الله مُنتهى بَحثنا عن الفَرَح والمُتَع الحقيقيّة، ولَيس الوسيلة لمُتَعٍ باطِلة: "فَآتِي إلى مَذْبَحِ الله إلى الله بَهْجَةِ فَرَحِي" (مزمور 43: 4). هو بَهجَةُ الفَرَح أي قِمَّته، ولَيس أسواق الذَّهَب أو اجتماعات مع الأقارب، ولا أيّ بَرَكات أُخرى على الأرض أو في السّماء. الأُسبوع الماضي، طالَبْتُ، مُستَنِداً على عبرانيّين 11: 6، أنّه لا يمكنك إرضاء الله إنْ لَم تأتي إليه للمُجازاة، واليوم أُؤكِّد هذا ثانِيةً، أنّ المُجازاة هي العِشْرَة مع الله نَفْسَه.
2) ثانياً، مفهوم الحياة المسيحيّة الفَرِحة يُعلِّم أنّ الوَعي يقتُل الفَرَح، وبالتّالي يقتُل العبادة. بِمُجَرَّد أنْ تُحوِّل نَظَرَكَ إلى نَفْسِك وتُصبِح واعِياً لاختِبار الفَرَح، يَهرُب الفَرَح في الحال. المسيحي المُختَبِر يعرِف جيّداً أنّ سِرَّ الفَرَح في نِسيانه الذّاتي. نعم، نحن نذهب إلى معهد مينابوليس للفُنون لمُتعَةِ رُؤيَة اللّوحات الفنيّة، ولكنْ مَشورة الوصول إلى التّلذُّذ المسيحي تقول: ضَعْ كُلّ تركيزك على اللّوحات مثلاً، لا على مَشاعِرك، وإلاّ ستخسر التّجربة برُمَّتِها. هكذا، في العبادة، يتَحَتَّم أنْ يكونَ التّوَجُّه الأساسي نحو الله ذاته، وليس على أَنفُسِنا.
3) ثالثاً، التّلذُّذ المسيحي لا يقود إلى إلهٍ مِن أجل المُتعة، بل يقول إنّك بالفِعل لك إله تستمع به أكثر مِن استِمتاعك بأيِّ شيءٍ آخَر.
4) رابعاً، إنّ مبدأ حياة التّلذُّذ المسيحيّ لا يضَعُنا فوق الله، حاشا، حينما نطلُبُه انطِلاقاً مِن اهتمامٍ بالذّات. لأنّ المريض لَيس أعظم مِن طبيبه إذ أنّه يأتي إليه ليصبح صحيحاً. ولا الطِّفل أفضل مِن أبيه لأنّه يرغب في اللَّعب معاً. أَفتَرِضُ أنّه في 21 ديسمبر أتيتُ معي بورود حمراء إلى زوجتي "نويل"، للاحتفال بذِكرى عيد زواجنا. وعندما قالَت لي: "إنّها حقّاً جميلة يا جوني، أشكرك جدّاً". أَجَبْتُها أنا: "العَفو، إنّه واجِبٌ عليّ". بِجَوابي هذا أَكون قد قَضَيتُ على كُلِّ القِيَم الأخلاقيّة. لَو لَم أتحرَّك بفِعل مشاعِر عَفويّة صادقة تجاه شخصها، سيُقلِّل هذا الواجِب مِن شأنها. وهذا الذي يجب تغييره في عبادتنا أيضاً. إنّنا نُقلِّل مِن شأن الله حينما نأتي إليه بفِعل اتِّجاهٍ حَرَكِيّ خارجيّ دون التّلذُّذ الحقيقي بشخصه. تفرَح زوجتي جدّاً، ولا تشعر بأيِّ تقليلٍ من شأنها، حينما أقول لها: "إنّ السَّبب الذي يجعلني أصطَحِبُك في نُزهة وحدك خارجاً هذه الليلة، هو أنّني أشعر بسعادة ولَذّة بالِغة في قضاء الوقت معك". إنّ الهدف النّهائي للإنسان لَيس تمجيد الله والاستمتاع به للأبد، لكنْ تمجيد الله بالاستِمتاع به للأبد. وإنْ كُنّا لا نَجِدُ مُتعَةً فيه، فإنّنا لا نُمجِّده. ولِذا، إنّي أقولَها ثانِيةً، إنّ حُلُمي في أنّ كنيستنا تَضُمَّ عابِدين حقيقيّين، لا يتحقَّق إنْ لَم نُصبِح مسيحيّين مؤمنين مُختَبِرين مُتَلذِّذين بالرّبّ وغير مُكتَفين بِمُمارَساتٍ خارجيّةٍ ومُتَعٍ أرضيّةٍ مُؤَقّتةٍ.
افْتَحْ عينَيكَ على مَجدِ الله:
أرجو قَبلَ أنْ ننتهي مِن هذه السِّلسلة أن تكون قد اقتَنَعْتَ في داخلك بِما نَطرَحَه. غير أنّ هذا لَيس كافِياً حتّى نُصبِح عابِدين حقيقيّين، يجب أنْ تَستَيقِظ مَشاعِر جديدة وقويّة في قلوبنا. إذا لَم نُنَمِّي قِوى الأحاسيس والخَيال فإنّها ستَضْمُرُ وتَضْمَحِّلُ وتموت، وهكذا أيضاً عبادتنا.
دَعونا أنْ لا نسمح لِما حَدَثَ لِ "تشارلز داروين" أنْ يحدُثَ لَنا ثانِيةً. فإنّه قُرْبَ نهاية حياته، كَتَبَ قصة حياته لأولاده وعَبَّر فِيها عن نَدَمٍ واحِدٍ. كَتَبَ: "عند سِنّ الثّلاثين تقريباً، جَلَبَ لِي الشِّعْرُ سعادةً عظيمةً، والصُّوَرْ أعطتني مُتعة لا بأس بها، والموسيقى وهَبَتني بَهجَة هائلة. إلاّ أنّي الآن ولِسِنينَ عديدة لَم أَعُد قادراً على قراءة بَيتٍ واحِدٍ مِن الشِّعر. كَما أنّي لَم أَعُد أتذَوَّق الصُّوَر ولا الموسيقى. ... وبِرَغم أنّي ما زلت أحتفِظ بتَذَوُّقٍ للطّبيعة، إلاّ أنّها لَم تَعُدْ تُسعِدُني وتُبهِرُني كَما كانت تفعل في السّابق. أمّا عقلي فأَمْسى وكأنّه طاحونَة وصايا وشَرائع مِن بين مجموعة هائلة ومُتنوِّعة مِن الحقائق".
إخواني وأخواتي، مِن فضلكم لا تَدَعوا هذا يحدث لَكُم!. لا تَدَع مسيحيتّك تُصبِح بمَثابة ماكينَة شرائع دينيّة عامّة للحقائق الكتابيّة. لا تَدَع حُبَّك الأوّل ينمو بارداً. لا تَدَع جَمال علاقتك بالله وشِعرها وموسيقاها تَبْهُتُ وكأنّها لا تَعني شيئاً لك. أنتَ مَدعُوٌّ ومُؤَهَّلٌ لِفَرَحٍ قَلَّما تختَبِره. فقط اِفَتَحْ عَينَيك لمجده، وسَتَجِدُ كُلّ هذا مِن حَولك. "السَّمَواتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ والْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ" (مزمور 19: 1).
إنّ الله سيُوقِظ قلبك لَو سألتَه وطلَبتَه كَما تطلُبُ كَنزاً مَخفِيّاً. الاثنين الماضي، كنتُ عائداً بالطّائرة من شيكاغو، وتقريباً كنتُ وحدي فِيها. لِذا، جلستُ بجِوار النّافذة الشّرقيّة. قال الطيّار إنّ عاصفة رعديّة تعصِف أعلى بُحَيرة ميتشجان ووسكونسين، ولذلك طارَ بِنا إلى الغَرب. جلستُ أتأمَّل في دَهشةٍ كيف تحوَّل السّواد الحالِك في لحظة مُفاجِئة، إلى نورٍ باهِرٍ أَضاءَ السّماء بِرُمَّتِها، ثُمّ ظهرَتْ سُحُبٌ بيضاء على بُعْدِ نحو مِيلَين أو ثلاثة أو أربعة أسفلَ الطّائرة ثم اختفت. وبعد ذلك بدقيقة واحدة، انفجَرَ نَفَقٌ أبيض هائل مِن النّور ناحِيَة الشِّمال مُتَّجِهاً إلى الْجنوب عَبرَ الأُفُق كُلِّه، ثُمّ اختفى أيضاً وتلاشى في السَّواد. وبعدها ببُرهة، كان الضّوء تقريباً ثابتاً، وبُركان مِن النّور انفَجَرَ في شكلِ سَحابَة مُتَّخِذة هي أيضاً شكلَ وِديانٍ ضيِّقة ومِن خلفِها جِبال بيضاء. جلستُ آنذاك أهُزُّ رأسي مِن دَهشتي وعَدَم تصديق ما رأيته للتّو قائلاَ "أيها السيد: هذه ما هي إلا وَمَضات بسيطة مِن لَمَعان وِحِدَّة سَيفك، تُرى ما سيكون عليه الحال يَومَ ظُهورك!"، وعندها تذكَّرتُ كلمة الرّبّ ذاته: "لأنّهُ كَمَا أنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَ يَظْهَرُ إِلَى الْمَغارِبِ هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسانِ" (متّى 24: 27).
وحتّى الآن وأنا أتذكَّر هذا المَشهَد. كلمة "مَجْد" تَذخَرُ بمَشاعِر عميقة، وإنّي أشكر الله أنّه يوقِظ قلبي دائماً وبِصِفة مُتجَدِّدة لأشتَهيه وأعبُده، وهو قادر أنْ يفعل هذا أيضاً معك، لَو أنّك حقّاً تريدُه.