المحبَّة: ثمرُاللذَّة المسيحيَّة
إنَّ عَمَل الصّلاح الذي تقوم به لأجل الله والنّابِع عن شُعورِك بنزاهتك وبِرِّك الذّاتي، يُعَدُّ تجديفاً مُهيناً. فإذا كُنتَ تأتي لله مُتفَضِّلاً عليه مُكافِئاً إيّاه على طاعتك له بدل أن تأتي إليه مُتعطِّشاً لمكافأته لك بعد وقت العِبادة والشَّرِكة معه، فإنّك بذلك ترفع نفسك فوق الله بجَعل ذاتك مُحسِناً إليه، وبذلك تُقلِّل مِن قَدْرِه -كمُحتاجٍ للإحسان- وهذا يُحسَبُ تجديفاً.
الطّريقة الوحيدة التي بها تُكرِّم الله وتُعظِّم كفايته، هي بِأَنْ تأتي إليه لتتمتَّع بمعرفته وتختبر محبّته لك.
هذا كان مِحوَر كلامنا في الأسبوع الماضي وهذا ما يُمكِن تسميته: "اللذّة المسيحيّة الرّأسيّة" بين الله والإنسان على المِحوَر الرّأسي للحياة. السَّعي نحو هذا النّوع من التّمتُّع ليس فقط جائزاً ومُمكِناً فحَسْب بل لازِماً وحتميّاً "تلذّذ بالرّب". فالغاية القُصوى للإنسان هي أن يُمجِّد الله من خلال تمتُّعه به إلى الأبد.
وماذا عن "التّمتُّع المسيحي الأُفُقي"؟، ماذا عن علاقاتنا مع الآخَرين؟ هل فِعلُ الخَير يكون على مَضَض؟.
أَ غيرُ المُبالي هو المَثَل بين البشر وبعضهم ؟، أَو هَل فِعل الأشياء باستمتاعٍ هوحتميٌّ ومُلزِم على المِحوَر الأُفُقي أيضاً؟. الإجابة هي: إنّ فِعل الأشياء باستمتاعٍ وفَرَحٍ هو الدّافعُ الرّئيسيُّ لكُلّ عملٍ صالحٍ أيّاً كان. وبتعبيرٍ آخَر، لو تخلَّيتَ عن دافِع الاستِمتاع والفَرَح، لن تتمكَّن مِن محبَّة النّاس، ولا مِن إرضاء الله. سأُحاول الآن أن أُريك لماذا أنا أؤمن بهذا من الوحي المقدَّس نفسَه. وبعدها نتعامل مع بعض المقاطع الكتابيّة الصّعبة، ثُمّ نَختُم بتَحَدٍّ فَأَدعوك لتنضمَّ إلى تاريخٍ طويلٍ من المسيحيّين المُستمتِعين والمُتلذِّذين بعَمل المحبّة في الكنيسة والعالَم.
محبّة المَكدونيّين:
دعونا أوّلاً ننظر إلى 2 كورنثوس 8، ما نوع الفِعل الخارجي والدّاخلي الذي وصَفَه بولس "بالمحبّة"؟.
"ثمَّ نُعرِّفُكُم أيّها الإخوة نِعمةَ اللهِ المُعطاةَ في كنائسِ مَكِدونيّة. أنّه في اختبارِ ضيقةٍ شديدةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهم و فَقرِهم العَميقِ لِغِنَى سَخائِهِم. ... لَسْتُ أقولُ على سبيلِ الأَمْرِ بل باجتهادِ آخَرينَ مُختَبِراً إخلاصَ محبَّتِكُمْ أيضاً" (2 كورنثوس 8: 1- 2، 8).
يُقدِّم الرّسول بولس المَكِدونيّين كمِثالٍ لمحبَّةٍ مُخلِصةٍ، ليرى ما إذا كان الكورنثيّين سيتبعونهم في هذا أم لا!. والآن، ما هي المحبَّة طِبقاً لِما جاء في عدد 1، 2؟. أوّلاً، إنّها نابِعة مِن عَمَلِ نِعمةِ الله. "نُعرِّفُكُم أيّها الإخوة نعمة الله المُعطاة في كنائس مَكِدونيّة". ثانياً، جَعَلَهُم يختبرون فَيض وُفُور فَرَحهم (ع 2). تأمَّل جيّداً ولاحِظ أنّ الفَرَح لم يكُن بسبب أنّ الله جعلهم أغنياء من النّاحية الماديّة. في الحقيقة، هُمْ كانوا في "فقرٍ مُدقِع" طِبقاً للعدد 2. لِذا، لَم يكُن فرحهم بسبب أشياء، ولكنْ في الله نفسِه. ثالثاً، فاضَ وُفُور فرحهم من خلال سخاءهم عندما جَمَع بولس تَقدِمات لقدّيسي أورشليم. إذن ما هي المحبّة التي رآها بولس هنا؟. "المحبّة" وهي فَيضُ فَرَحٍ في الله تُسدِّد احتياجات الآخَرين. لاحِظ عدد 4، "(توَسَّلوا لبولس) بطِلبَةٍ كثيرةٍ أن نقبَلَ النِّعمة و شِرْكَة الخِدمة التي للقدِّيسين". يجب أن نضعَ فى اعتبارنا أنّ سخاءَهم هذا نابِعٌ مِن خلال علاقتهم بالله وليس بسبب أيِّ ضُغوطٍ مِن طَرَفِ بولس، أي لَم يجَعَلَهُم يقوموا بذلك مُجبَرِين. مِثالٌ على ذلك يتَّضِح في إلحاح أطفالك عليك لكي تُعطيهم جَولة إضافيّة بمَركب في البحر، ويظلُّوا يُلِحّوا ويقولوا ( هل ممكن يا بابا ؟ أرجوك!)، فهُمْ لا يفعلوا ذلك انطلاقاً من أخلاقياتٍ ما تُناقِض رغباتهم. وهكذا حينما توسَّل المَكِدونيّين الفقراء، لبولس بغرضِ امتيازِ تقديمِ أموالٍ لصندوق العطاء والإحسان، نستطيع أن نقول أنّهم عملوا ذلك بالفِعل لأنّهم أرادوا فِعل ذلك. وما نحن واثقون منه أنّهم أنكروا أنفسهم غير مُبالين بالطّعام أو المَلبَس الذي كانت هذه الأموال ستأتي بها إليهم، ولم يكن هذا الإنكار للذّات بالطّبع لمُجرّد واجب روتيني عقيم غير مُبهِج. هُمْ ضحّوا بمُتعة المَزيد من طعام ليربحوا مُتعة وفَرَح مُشارَكة نعمة الله مع الآخَرين. هؤلاء امتلأوا بفَرَحٍ عارِمٍ في الله حتّى أنّهم برُغم فقرهم أعطوا وكان العطاء بَرَكة، لا ثِقل. لقد اكتشفوا أنّ عمل المسيحيّة الحقيقيّة المُتلذِّذة بالرّب هي: المحبّة!، حيث أنّ المحبّة هي فَيض الفَرَح في الرَّبّ الذي يُسدِّد احتياجات الآخَرين.
المحبّة أكثر من مُجرَّد عَمَل:
مِن مُحاضَرة جوزيف فيلتشر، "أخلاق المواقف"، بكُليَّة بيت إيل، سَمِعتُه يقول: "إنّ المحبّة لا تتعلَّق بما تشعر به بل بما تفعله". هذا إفراطٌ زائدٌ في التّبسيط (وله جذوره في التّعليم الذي يُنادي بإمكانيَّة التّحلِّي بالأخلاق الحَميدة دون الوِلادة بالرُّوح). غيرَ أنّنا نَجِد بولس في 1 كورنثوس 13: 3، يقول: "و إنْ أطعَمْتُ كُلَّ أَموالي وإنْ سَلَّمْتُ جَسَدي حتّى أَحتَرِقْ ولكِنْ لَيس لِي محبَّةٌ فَلسْتُ شَيْئاً". إنّ المحبّة الأصليّة الحقيقيّة هي أكثر مِن العَمَل. لَم يُقدِّم بولس المَكِدونيّين مِثالاً للمحبَّة لأنّهم فقط أعطَوا بِسَخاء، بل أشار إليهم لأنّ عطاءَهم كان نابِعاً من فَيضِ الفَرَح بنِعمةِ الرّب. إنّ أعمالَ الخَير التي لا تَنبُع مِن فَرَحِنا بِنعمَة الرّب، هِي لَيست محبّة. الشّيء الوحيد الذي يدعوه الرّسول بولس "محبّة" هو عَمَل المسيحي المُختَبِر المُتَلذِّذ بالرّب، أي عَمَل الخَير لأُناسٍ وَجدوا شَبَعهم في الرّب والآن يَسعَوا لامتداد هذا الشّبع من خلال مُشاركتهم مع الآخَرين.
لِذا لَعلَّك فهمتَ الآن لماذا قُلتُ إنّ الدَّافِع للفَرَح الكامل والمُستمِرّ هو حافِزٌ جوهريٌّ لكُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ. ولَو تخلَّيتَ عن هذا الدّافع لَن تتمكَّن مِن محبّة النّاس، ولا مِن إرضاءِ الله.
الله يُحِبُّ المُعطي المَسرور:
دَعونا أوّلاً نرى إذا كان هذا مُؤكَّداً ومُوَثَّقاً في أحد المقاطِع الكِتابيّة. وسنجد أنّ بولس يستمِرُّ في طَلَبِه هذا في 2 كورنثوس 9، ويُعطي المبدأ الْجوهريّ في عدد 7:
"كُلُّ واحِدٍ كَما يَنوي بقَلبِهِ لَيسَ عَن حُزنٍ أو اضطِرارٍ لأنّ المُعطيَ المَسرورَ يُحبُّهُ الله".
أُقدِّمُ هذا لأقول: إن الله لا يَسعَدُ حينما يُقدِّمُ النّاسُ أعمالَ الخَير ويفعلونها بغَيْرِ سُرورٍ، وعندما لا يَجِدوا الغِبطَةَ في أعمالهم وخَدَماتهم، فالله أيضاً لا يَجِدُ غِبطَةً فيهم. الله يبتهج بالمُعطي المسرور، والخادم المسرور، ولهذا أقول إذا تخلَّينا عن الدّافع نحو السُّرور الكامِل والباقي، لَن نتمكَّن مِن إرضاء الله، فالله يُسِرُّه المُعطونَ المَسرورون، أي يُسَرُّ عندما نبتهج ونحن نعطي. ومِن ثُمَّ، مِن المُهمّ جدّاً أنْ نكونَ مسيحيّين نَبغي السُّرور على المِحور الأُفُقي، أي في علاقتنا بالآخَرين، ودائماً نسعى للسُّرور أيضاً في العَطاء.
الله يُحِبُّ الخادِم المَسرور:
تأمَّلْ 1 بطرس 5: 2. عندما حَثَّ بطرس الشُّيوخ على السُّلوك الْجيّد في خِدمة رعيَّةِ قطيعِ الله. يُطبِّق بطرس المبدأ ذاتَه على الخِدمة الرّعويّة كَما طبَّقها بولس على الخِدمة الماليّة في 2 كورنثوس 8، 9.
"ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ التي بينَكُمْ نُظَّاراً لا عَنِ اضْطِرارٍ بَلْ بالاخْتِيارِ ولا لِرِبْحٍ قَبيحٍ بَلْ بِنَشاطٍ". 1 بطرس 5: 2.
هذا رُبَّما نُلخِّصُه بالقَول: الله يُحِبُّ الرُّعاةَ المسرورين. وصيَّة الله لا نفعلها فقط، بل نفرح في فِعلِها. إنْ لَم تَسْعَ للخِدمة لأنّك تتوقّعُ فَرَحاً عظيماً فيها، فإنَّك لا تَتبَعْ وصيّة الله. القِس "فيليب بروكس" راعي الكنيسة الأُسقُفِيّة في "بوسطن" منذ مائةِ عامٍ مَضَتْ، ومُؤلِّف "يا قريةَ بيتَ لَحْم"، كَتبَ عن الرّعويّة :
"أعتقدُ أنّه مِن المُهمّ جدّاً لنجاحِ الخادمِ أنْ يَستمتِعَ بعَمَلِه، وأَعني الاستِمتاع بالفِعل بهذا العَمَل، ولَيس مُجرَّد الاستِمتاع بفِكرة الخِدمة. لا أحد على الإطلاق يُمكِن أنْ يُبلِيَ بَلاءً حسناً وهو مُشمَئِزٌّ مِن مَهامِ عَملِه، لكنْ يُمكِنه أنْ يفعل ذلك وباستمرار لو امتلأَ بالرُّوح. رُبَّما بالكاد يُمكِن أن يَخطو خُطوة وهو يَحمِلُ بداخله عَدَمَ الفَرَح بالعَمل والخِدمة، إلاّ أنّه لا يُمكِن أنْ يستمرَّ هكذا يوماً تِلوَ الآخّر، وعاماً بعدَ عام. وبالتّالي، اِحسَبْهُ لا مُجَّرد فَرَحٍ شَرعِيٍّ، بَلْ اِحسَبْهُ عُنصُراً أساسيّاً مِن عناصر قُوَّتك، وخاصةً لو استطعتَ أنْ تشعرَ بفَرَحٍ ولَو بسيطٍ في كُلّ ما تفعله كخادِم. فَرَحٍ بسيطٍ في توهُّجِك في الكِتابة، في حرارة كلماتك وعِظاتك، في وقوفك أمام الشّعب وتحرُّكِك وسطهم، في علاقتك بالشّباب. كُلّما اجتهدتَ أكثر أنْ تفرَح تُصيبُ أكثر في كُلِّ ما تفعل.
لأؤكِّد على فكرتي هذه أُحِبّ أن أُكرِّرها بصيغة أُخرى، أي بمعنى أنَّه حتّى يتسنّى لَنا أنْ نخدُم في الكنيسة أو في العالَم بطريقة تُسِرُّ الله وتُفرِحنا في نفس الوقت، لابُدَّ لَنا أنْ نتَّذكَّر كلمات الرّبّ يسوع التي اقتبَسَها بولس في أعمال 20: 35، ليُلْهِمَ شيوخ الكنيسة: "مُتذَكِّرينَ كَلِماتِ الرَّبِّ يسوع أنّه قالَ مَغْبوطٌ هُوَ العَطاءُ أكثَرُ مِنَ الأَخْذِ". كان يعني بالتّأكيد أنّ لهذا الوعد قيمة عظيمة بصِفَته حافِزاً لخدمتنا. وكأنّي ببولس يقول: "تذكَّروا ولا تنسَوا هذا الوعدَ بالبَرَكة والمديح لِمَن يُعطي وهو يشعر بالسُّرور والفَرَح لعَمَلِه هذا". إنَّه يشير إلى أنَّ القيمة الأخلاقيّة (المعنويّة) لسخائنا في العطاء لا تُفلِسْ أو تهتَرِىء عندما تترافق مع غِبطتنا وسعادتنا بعَطائنا. لَيس مِن الخطأ أنْ نرغبَ ونتمنّى البَرَكة وأيضاً نَسعَد ونفرح بها، تلك التي وعَدَنا بها المسيح حينما قال: " مَغْبوطٌ هُوَ العَطاء أكثرُ مِن الأَخْذ".
لا تَكْتَفِ بمُتَعٍ أقلّ مِمّا يُمكِن أنْ تحصلَ عليه.
إنّ العائِقَ الذي يَحولُ دون محبّة النّاس هو ذاتُه العائِق الذي يُعطِّل عبادتنا لله، كَما أنّ المانِع الذي يمنعُنا مِن طاعة الوصيّة الأُولى (الرّأسيّة) هُوَ المانِع نفسُه الذي يمنعُنا مِن تنفيذ الوصيّة الثّانية (الأُفُقيّة). العائِق لَيس في أنّنا جميعاً نحاول إرضاء وإشباع أنفسنا، لكنْ في أنّنا جميعاً وبسهولة شديدة، بعيدين عن هذه السّعادة. وكأنّنا لا نُصدِّق المسيح حينما يقول أنّه يوجد سعادة أكبر وفَرَح أعظم واستِمتاع كامل ودائم في الحياة. كُلّ هذا كامِن في مساعدة الآخَرين، ويختلف ويَسمو عن ما هُوَ كامِن في الحياة ومُخَصّص لوسائل الرّاحة والتّرَف الماديّ، وبالتّالي فإنّ الاشتياق إلى الشِّبَع الذي بحَسَبِ قَصد المسيح إنّما يقودنا إلى البَساطة في الحياة وعَمَل مُحتوى المحبّة ذاتَها، عِوَضاً عن الأواني المكسورة للرّفاهيّة والتَرَف. إنّ الرِّسالة التي يجب أنْ يُنادَى بها مِن أعلى بُرج IDS ومِن وسط المدينة إلى السَّاعين للمُتَع هي: أنتم لم تجتهدوا بدرجة كافِية للحصول على المُتَع الحقيقيّة:
"لا تَكْنِزوا لَكُمْ كُنوزاً على الأَرضِ حَيثُ يُفْسِدُ السُّوسُ والصَّدَأُ وحَيْثُ يَنْقُبُ السّارِقونَ و يَسرِقونَ. بَلْ اكْنِزوا لَكُمْ كُنوزاً في السَّماءِ حَيْثُ لا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلا صَدَأٌ وَحَيْثُ لا يَنْقُبُ سارِقونَ وَلا يَسرِقونَ" (متّى 6: 19، 20).
كَفاكَ رِضاً بِعائِدٍ نسبته 5.25%، والذي سَيلتَهِِمُه سُوسُ التّضخُّم الاقتصاديّ ويَعتَلِيهِ صَدَأُ المَوت. أدعوكَ عزيزي أنْ تستثمِرَ فيما هو مضمون وراسخ حيث العائِدُ المُرتفِع ذو الضَّمانات السّماويّة.
إنّ الحياةَ المُكَرَّسة فقط للمُتَعِ الماديَّة تُشبِهُ إلقاءَ مالٍ في جُحرِ فأرٍ، بينما حياةٌ بسيطةٌ مِن أجِلِ المحبّة هِيَ محصولٌ وافرٌ وبِهِ أَفراحٌ لا يُعبَّرُ عنها، ولَيس لَها نهاية. إسمَعْ كلمة الرّب:
"بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعطُوا صَدَقَةً، (وهكذا) اِعْمَلوا لَكُمْ أكياسا لا تَفْنَى وَكَنْزاً لا يَنْفَدُ في السَّمواتِ" (لوقا 12: 33).
إخواني وأخواتي، إنّ الرِّسالة التي لَدَينا لِهذا العالَم هِيَ الإنجيل، وهو الأَخبارُ السّارّةُ:
اْترُكُوا الأواني المكسورة للذّات غَير المُشبَعة . تعالَوا إلى المسيح الذي في حضوره الفَرَح الكامل، بل وأفراحٌ تدوم. انضمُّوا إلينا في عمل الحياة المسيحيّة السّاعِية للفَرَح والسّرور، لأنّ الرّبَّ قال : مَغبوطٌ ومَبارَكٌ أنْ تُحِبَّ أكثر مِن أنْ تحيا حياة مُترَفِّهة.
رسالةُ الحَثِّ على الفَرَح والتّلذُّذ، في الرِّسالة إلى العِبرانيّين:
تأمَّلْ معي عِبرانيّين 10: 32 -34، أُريدُكَ أنْ تتأمَّل معي فَيضَ الفَرَح الذي في الكُنوز السّماويّة التي أوجَدَتْها المحبّة في العصور المسيحيّة الأُولى وسط اضطهادٍ قاسٍ.
"تَذَكَّروا الأيّامَ السَّالِفَةَ التي فِيها بَعدَ مَا أُنِرْتُمْ صَبَرْتُمْ على مُجاهَدَةِ آلامٍ كثيرةٍ، مِن جِهَةٍ مَشهُورينَ بِتَعْيِيراتٍ وضِيقاتٍ ومِن جِهَةٍ صائِرِينَ شُرَكاءَ الّذينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هكذا، لأنّكُمْ رَثَيْتُمْ لِقُيُودي أيضاً وقَبِلْتُمْ سَلْبَ أموالِكُمْ بِفَرَحٍ عالِمينَ في أنفُسِكُمْ أنّ لَكُمْ مالاً أفضَلَ في السَّمَواتِ وبَاقِياً".
هؤلاء المسيحيّون تحمَّسُوا لخدمة السُّجونِ بالطّريقة ذاتِها التي تحمَّسَ بها المَكِدونيّين لمُساعَدَةِ الفقراء (2 كورنثوس 8: 1-8). فاضَ فرحُهُم في الرّب وظَهَرَ في محبّتهم للآخَرين. لقد نظروا إلى ذَواتهم، وقالوا: "لأنّّ رَحمَتَكَ أفضَلُ مِنَ الحياةِ شَفَتايَ تُسَبِّحانِكَ" (مز 63: 3). ثُمّ نظروا إلى مُمتلكاتِهم وقالوا: "لَنا مُمتَلكاتٌ في السَّمواتِ أفضَلُ وتدومُ أكثر مِن كُلّ هذه المُمتَلكات الأرضيّة"، ثُمّ نظروا إلى أنفسهم وقالوا:
دَعِ الأملاكَ والخِلاّنَ يَمضون كَذا الدُّنيا والحياةَ الفانِية
فالحَقُّ الإلهيُّ يبقى مضمون فمُلْكُهُ يبقى بِطولِ الأبديّة
ورُبَّ هذا الْجسدُ أيضاً يقتلون أمّا النّفس معه فدَوماً باقِية
وبِفَرَحٍ تخَلَّوا عَمّا كانوا يمتلكونه وتَبِعوا المسيح لذلك السِّجن ليزوروا إخوانهم وأخواتهم (لوقا 14 : 33). المحبّة هي فَيضُ الفَرَح في الرّب الذي يُسدِّد احتياجات الآخَرين.
نعودُ إلى لُبِّ الموضوع، ونقول: إنّ كاتب الرّسالة إلى العِبرانيّين ذَكَرَ "موسى" كمِثالٍ للمسيحيّة السّاعِية للمُتَع الحقيقيّة الباقِية، عِبرانيّين 11: 24 – 26. لاحِظ كيف أنّ الدّافعَ مُتَشابِهٌ بين المسيحيّين الأوائِل في الإصحاح رقم 10 وبين المَكِدونيّين في 2 كورنثوس 8.
"بِالإِيمانِ مُوسَى لَمّا كَبِرَ أَبَى أنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَون، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أنْ يُذَلَّ مَع شَعبِ اللهِ على أنْ يكونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وقتِيٌّ بالخَطيّة، حاسِباً عارَ المسيحِ غِنًى أعظمَ مِن خَزائِنِ مِصْرَ لأنّهُ كانَ يَنظُرُ إلى المُجازاةِ".
إنّ كاتبَ هذه الرّسالة ثابِتٌ بشَكلٍ مُذهِل في كتاباتِهِ عن المسيحيّة السّاعِية للفَرَحِ والسُّرورِ الحقيقيّ، ففي الإصحاح 10: 34، يقول إنّ رَغبةَ المسيحيّين في مُمتَلَكاتٍ أفضَلُ وباقِية تتَّضِحُ محبَّةً ممزوجَةً بفَرَحٍ، وهُوَ ما قد يُكلِّفُهم ممُتَلَكاتِهم الأرضيّة. في الإصحاح 11: 6 يقول إنّه لا يُمكِنك إرضاء الله لَو لَمْ تأتِ إليه طالِباً المُجازاة، وفي الإصحاح 11: 16 يمتَدِحُ الآباء لأنّهم "ابتغَوا" وطناً أفضل، ولذلك لا يَستحي الله أنْ يُدعى إلههم، وهو قد أعَدَّ لَهُمْ مدينةً بأكملها. في الإصحاح 11: 24- 26 مُوسَى بطلٌ لأنّ محبّته للمُجازاةِ السّماويّة فاضَتْ فَرَحاً جعلَهُ يَحسِبُ كُلّ مُتَعِ مِصْرَ بمثابةِ نِفاية، وارتبَطَ بمحبّة أبديّة بشّعبِ الله. ثُمّ في الإصحاح 12: 2:
"نَاظِرِينَ إلى رئيسِ الإِيمانِ ومُكَمِّلِهِ يَسُوعَ الّذي مِنْ أَجلِ السُّرورِ المَوضوعِ أمامَهُ احْتَمَلَ الصَّليبَ".
إنّ أعظمَ أعمالِ المحبّة التي تجَلَّت على الإطلاق أُعلِنَتْ لأنّ المسيح سَعى إلى أعظمِ سُرورٍ يُمكِنُ تصوُّرَه، وهو سُرورُ مَجدهِ على يمينِ الآبِ وفِداءِه لشعبه.
وماذا عن إنكارِ الذّات؟
والآن المِثال المُتعلِّق بالمسيح نفسِه يُمثِّل فُرصةً جيّدةً لنتعاملَ مع ما يبدو لوَهلَةٍ أنّه تناقُضاً في النُّصوص المُتعلِّقة بالمسيحيّة السّاعِية للسُّرور والفَرَح. على سبيل المِثال في 1 كورنثوس 13: 5، يقول: "المحبَّة لا تطلُبُ مَا لنَفْسِها"، و في 1 كورنثوس 10: 24 يقول: "لا يطلُبُ أحدٌ مَا هُوَ لنفسِهِ بَلْ كُلّ واحِدٍ مَا هُوَ للآخَر". وفي رومية 15: 1-3:
"فَيَجِبُ عَلَينا نحنُ الأَقوِياءَ أَنْ نَحتَمِلَ أَضْعافَ الضُّعَفَاءِ وَلا نُرْضِيَ أنفُسَنا، فَلْيُرْضِ كُلُّ واحِدٍ مِنّا قَرِيبَهُ للخَيْرِ لأَجْلِ البُنيانِ، لأنَّ المسيحَ أيضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ بَلْ كَما هُوَ مَكْتوبٌ تَعْيِيراتُ مُعَيِّريكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ".
هل هذه الآيات تتناقَضُ مع المسيحيّة السّاعِية للفَرَحِ الشّخصيّ؟. لا أعتقد ذلك. عندما يقول بولس الرّسول: "المحبّة لا تَطلُبْ مَا لنَفْسِها". بالتّأكيد لا يَقصِد أنّ المحبّة لا تفرح فيما تقوم به من خدمة (انظر رومية 12 :8)، إنّه لا يقصد أنّه إذا دُعِيتُ لأُشارِك الأخبار السّارّة وأَعِظ، لا يكون هذا مِن أعمال المحبّة. ويستمرُّ في أقواله عن المحبّة ليُضيف: "المحبّة تَرجو كُلّ شيء" (1 كورنثوس 13: 7). ولكنْ ما الرّجاء في التّوقُّع أنّ شيئاً ما مُبهِجاً سيحدث؟. لو أتَحنا الفُرصة لبُولس ليَشرحَ لَنا ما قد يبدو لوَهلَةٍ أنّه تناقُضٌ و"مُشكِلة" نَصِيّة، لَقالَ لَنا أنّه على المسيحيّين أن لا يَسعَوا نحو لَذّاتهم الوقتيّة المحدودة، ولا أنْ يُمَتِّعوا أنفسهم بوسائل الرّاحة الماديّة العالَمِيّة، بل ينبغي أنْ ينضمّوا إلى يسوع في طريق الجُلْجُثة للمُعاناةِ والعارِ والبَساطَةِ، لكنْ لَيس عن تَذمُّرٍ ودَمْدَمَةٍ. كلاّ، ينبغي أنْ ننضمَّ للرَّب في طريق المحبّة لأنّ السّرورَ موضوعٌ أمامَنا، ولأنّ الرّب يُحِبُّ المُعطيَ المسرورَ. لأنّ الرّب يُحِبُّ الرُّعاةَ والخُدّامَ المُتشوِّقينَ للخِدمة، ولأنّ العَطاءَ مَغبوطٌ أكثرَ مِن الأَخْذِ، ولأنّ المُعاناةَ مع المسيحِ أفضلُ وأعظمُ مِن خَزائِنِ وكُنوزِ مِصْرَ، ولأنّه لَمّا أَضَعْنا حياتَنا مِن أَجلِه، فإنّنا سنربحُها للأبد.
نعم، يوجدُ مبدأٌ كِتابيٌّ يُدعى "إنكارُ الذّات"، ويجب أنْ نُنكِرَ ذواتِنا كَرِمالٍ لكي نُبنَى على الصَّخر، ونُنكِرَ على ذواتِنا مُتَعَة ما يَتِمُّ تناولَه بالفَمّ حتّى نحظى بالثَّرَوات الأبديّة. لابُدَّ أنْ نُنكِرَ على ذواتِنا الأمانَ بين النّاس، وبذلك نختبرُ الأمانَ الحقيقيَّ والسَّلامَ بين يَدَي الله. لابُدَّ أنْ نُنكِرَ على ذواتِنا النَّهَمَ والثَّمَلَ، حتّى نصيرَ ضُيوفاً على وليمةٍ أفضلَ وأعظمَ في الكَون كُلّه. لا بُدّ أن نُنكِر ذواتَنا في الاعتمادِ على الذّات، حتّى يُمكِن أنْ نقول: "الرّب راعيَّ فَلا يُعوِزُني شَيءٌ". لا يَطلُبُ منك الرّب أنْ تُنكِرَ نفسَك في فِعلِ ما هو ذا قيمةٍ أكبرَ لتفعلَ شيئاً آخَر أقلَّ قيمةً، والعكسُ صحيحٌ دائماً وأَبَداً حيث يدعونا الرّب أنْ نتخلَّى عن كُلِّ المُتَعِ الأقلّ قيمة وغير المُشبِعة والوقتيّة، لنحصلَ على مُتَعٍ أُخرى أعلى قيمةً ومُشبِعَةً حَقّاً، وأبديّة. بَعدَ العلاقة الرّأسيّة لوَليمةِ اللَّذة المسيحيّة والتي تتجلَّى في العِبادة، تأتي العلاقة الأُفُقيّة وهي عَمَلُ هذه العلاقة المسيحيّة وتظهرُ في المحبّة، والتّرتيب مُهِمٌّ جدّاً هنا، لأنّ المحبّة هِيَ فَيضُ الفَرَحِ في الله الذي يُسدِّدُ احتياجاتِ الآخَرين.
"لَو فقط تمكَّنتُ مِن محبَّةِ شخصٍ ما، سأكونُ سعيداً"
قدِّيسون كثيرون عَبرَ القُرون اكتشفوا أنّ السَّعيَ نحو السُّرورِ والمُتَعِ الحقيقيّة يُعَدُّ حافِزاً أساسيّاً لكُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ، وإذا تخلَّيتَ عن طَلَبِ المُتَعِ الكامِلة والباقِية، لن تتمكَّنَ مِن محبّةِ النّاس، ولا مِن إرضاءِ الله. لقد كتبَ جورج مولر: "لقد رأيتُ بطريقةٍ أوضحَ مِن كُلِّ ذي قبل، حتّى أنّ الشُّغلَ الشّاغلَ والأهمَّ في حياتي والذي أَحرِصُ عليه يوميّاً هو أن تكونَ نفسي سعيدةً في الرّب" ( الصفحة 52 من مُذكَّراتِه). سعادتُه في الرّب هذه فاضَتْ حياةَ محبّةٍ نحو اليَتامَى في إنجلترا.
سجَّلَ ابْنُ "هيدسون تايلور" قولَ أبيهِ في سَنواتِه الأخيرة: "أنا لَمْ أُضحِّ بشيءٍ قَطّ". وقد عَلَّقَ ابنَهُ على ذلك بقوله: "إنّ ما قالَه صحيحٌ، لأنّ تَثَقُلَّهُ بِما كانَ يَفعَلُ حقيقيٌّ ودائِمٌ للدّرجة التي جَعَلَتْهُ يشعرُ أنّ العَطاءَ والتّضحيات هو بمثابة أَخْذٍ والُحصول على أشياءٍ، وهذا يحدُثُ عندما تكون العلاقة بين الله والإنسان علاقةُ قَلْبٍ إلى قَلْب". (الأسرار الرّوحيّة لهيدسون تايلور، ص. 30). وفَيضُ الفَرَحِ بالرّب في هذا القَلْبِ أَفرَزَ كنيسةً في الصّين يأتي إليها في يومِنا هذا ملايين مِن النّاس.
جوناثان إدوارد، أحدَثَتْ عِظاتُه الصّحوة الأمريكيّة العُظمى الأُولى في عام 1740. كان قولُه بعَزْمٍ شديدٍ أثناءَ دراستَه الْجامعيّة: "لأسعى جاهِداً لأحصلَ لنَفْسي على أكبرِ قَدْرٍ مُمكِن مِن السّعادة في العالَم الآخَر، بكُلِّ قُوّةٍ وقُدرَةٍ ونشاطٍ وشِدَّةٍ، وأكونُ باذِلاً كُلّ جَهدٍ وقادِراً على بُلوغِ القَصد بكُلّ طريقةٍ مُمكِنة" (الأعمال Works ، العدد الأوّل، وص. Xxi).
وفي عام 1980 سمعتُ قِسّاً شابّاً مَن الكنيسة المعمدانيّة، يُلقي كَلِمة في بيت الضِّيافة (Hospitality House) الذي عَرَفَ المسيح فيه وهو طفلٌ صغيرٌ مغمورٌ. هذا الطِّفل الصَّغير الذي عاش في حَيٍّ مَشهورٍ بالعُنف والقَسوة داخل مدينةٍ صغيرةٍ في مينابوليس، الآن وبعد تخرُّجه في كاليفورنيا عاد ليعمل في نفس مدينته التي نشأ وآمَن فيها. الْجُملة الوحيدة التي أتذكَّرها كانت: "لَو فقط تمكَّنتُ من محبّةِ شخصِ ما، سأكونُ سعيداً". وهذا هو خِتامٌ جيِّدٌ لكَلِماتِ الرّبِّ يسوع عينِها، "مَغبوطٌ هُوَ العَطاءُ أكثرُ مِن الأَخْذِ". دَعونا نحن كذلك نَطلُبُ هذا في كنائسنا مِن كُلّ قلوبنا.